على مر التاريخ وتقادم الأيام و اختلاف الحِقب ، برزت شخصيات كان لها أثر واضح في تحديد وصنع ملامح الفكر الإسلامي من خلال رؤية حضارية شاملة ومتكاملة ، ومن أولئك الأشخاص ، المفكر الإسلامي الكبير " مالك بن نبي " . ولد الأستـاذ مالك بن نبي في 05 ذي القعدة 1323 هـ الموافق لـ 01 يناير 1905 بقسنطينة، مدينة العلم والعلماء. انتقلت أسرته إلى مدينة تبسة ثم لحق بها بعد فترة قضاها في قسنطينة عند أقاربه، وفي تبسة انتظم في حلقة لحفظ ما تيسر من القرآن الكريم، و أتم تعليمه الابتدائي والإعدادي. عاد مالك بن نبي إلى قسنطينة لمزاولة المدرسة التكميلية، ثم ثانوية التعليم الفرنسيي الإسلامي حيث نال شهادته سنة 1925. كان بن نبي يتمتع بفطنة وذكاء ورهافة حس، فكان يلاحظ و يحكم على ما يحدث في المجتمع الجزائري آنذاك، من جراء الوجود الاستعماري منذ قرابة القرن بما أحدثه من تمييز واغتصاب الأملاك وعدم المساواة و بعد انتهائه من الدراسة، بحث عن عمل يناسبه، لكن إذا استثنينا مدة قصيرة اشتغل فيها عادلا، (أي مترجما) بالمحكمة الشرعية بمدينة آفلو، وبعدها إلى مدينة شلغوم العيد، باءت كل محاولاته بالفشل؛ لأن الإدارة الاستعمارية أوصدت كل الأبواب في وجهه . في سنة 1930، غادر ابن نبي الجزائر متوجها إلى باريس )فرنسا)؛ لمواصلة دراسته، فحيل بينه وبين رغبته في دخول معهد الدراسات الشرقية، فتوجه إلى مدرسة اللاسلكي، التي تخرج فيها مهندسا كهربائيا سنة 1935، فكان بذلك أول مهندس جزائري في الكهرباء. وبين 1948 و1955، نشر مقالات في صحيفتي “الجمهورية الجزائرية” و”الشاب المسلم”. كتب حوالي 300 مقال تحتوي على جانب من فكره ، فهم مالكٌ بأنَّ الإسلام لا ينبغي على الإطلاق أن يصبح وسيلة لتنويم الشعوب المسلمة؛ بأن نحدثها باستمرار على ماضيها المجيد، بل يجب أن يكون “قوة عاملة”، وحقيقة محركة تعيدها إلى الحياة، و تشدهم إلى مصير الإنسانية المشتركة. اتَّجه منذ نشأته نحو تحليل الأحداث الَّتي كانت تحيط به . وقد أعطته ثقافته المنهجية الَّتي جمع فيها بين الثقافة الغربية والشرقية قدرة على إبراز مشكلة العالم المتخلِّف باعتبارها قضيَّة حضارة أوَّلاً وقبل كلِّ شيء . فوضع كتبه جميعها تحت عنوان ( مشكلات) . تزوج فرنسية واختار الإقامة في فرنسا وشرع يؤلف، في قضايا العالم الإسلامي كله، فكان سنة 1946 كتابه "الظاهرة القرآنية" ثم "شروط النهضة" 1948 الذي طرح فيه مفهوم القابلية للاستعمار و"وجهة العالم الإسلامي" 1954،أما كتابه " مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي" فيعتبر من أهم ماكتب بالعربية في القرن العشرين . وعلى الرِّغم من أنَّ غالبية الَّذين تحدَّثوا عن مالكًا تحدَّثوا عنه كمفكِّرٍ وفيلسوف وأغفلوا الجانب الجهادي فيه ، حيث ذُكِر بأنَّه غادر إلى مصر عند اشتعال الثورة الجزائرية في موطنه ، ولم تتحدَّث عنه كونه أحد الشباب الَّذين أيَّدوا ثورة الريف في الجزائر وتصدَّى مع ثلَّةٍ من الشباب للإستعمار الَّذي استخدم المساجد والأئمة للدعاية ضدَّ الثورة - كما ذكر ذلك في كتابه تأمُّلات - . كما أنَّه طلب إرساله على الحدود الجزائرية للمشاركة في الكفاح، وكتابة مذكرات الثورة، غير أن طلبه لم يحظ بالقبول . في عام 1956 انتقل إلى مصر ، وهناك حظي باحترام، فكتب "فكرة الإفريقية الآسيوية" 1956. وتشرع أعماله الجادة تتوالى، وبعد استقلال (الجزائر) عاد إلى الوطن، فعين مديراً للتعليم العالي الذي كان محصوراً في (جامعة الجزائر) المركزية، حتى استقال سنة 1967 متفرغاً للكتابة، بادئاً هذه المرحلة بكتابة مذكراته، بعنوان عام"مذكرات شاهد القرن" ، كما قام بتنظيم العديد من الندوات الفكرية في أكثر من بلد إسلامي وهو صاحب فكرة الملتقيات الإسلامية الَّتي دامت أكثر من عشرين سنة . وقد أحدثت مؤلفاته وموضوعاتها أثراً في توعية الشباب عن الإستعمار الغربي الذي يجثم على صدور الشعوب الإسلامية ، وأساليبه في إذلال هذه الشعوب ، كما تكلم مالك بن نبي عن النهضة وشرائطها والحضارة الغربية وطرق مواجهتها والشخصية المسلمة ومواصفاتها ، ولقد لفت الأستاذ مالك بن نبي نظر الأمة الإسلامية إلى أن الأخطر من الاستعمار هو القابلية للإستعمار ، لأن النفوس إذا ضعفت وانهزمت من داخلها ، تكون خير وعاء لإستقبال الاستعمار والرضا به والسير وراء حضاره الغالب والتخلي عن أمجاد الماضي وأصالته ، والالتصاق بكل ما يرد من المستعمر من خير وشر وحلو ومر وصواب وخطأ ، دون تمييز أو انتقاء بل بتقليد المغلوب للغالب والعبد للسيد وأوضح لها بأن القوي الغالب هو الله ، فلا غالب إلا الله وأن المسلم الحق هو الأعلى وأن الإسلام هو الدين الحق وأن المستقبل للاسلام . ومن هذه النظرة المعتزة بدينها والمستعلية بإيمانها الآخذه بخير ما في الحضارات المعرضة عن سوءاتها ، بحيث أهابت مؤلفات مالك بن نبي بأمه الإسلام أن لا تكون من عبيد الإستعمار وأن لا تكون مسخرة لأعماله ولا سوقاً لمنتجاته وأن لا تفقد أصالتها بتقليده في كل شيء حتى الأفكار كما يفعل المستغربون والمخدوعون بحضارة المستعمر من العلمانيين والحداثيين والإمعات الراكضين وراء كل ناعق.! كانت دراساته تنصب في معرفة أمراض العالم عموماً والجزائر خصوصاً وتشخيص علاجها وإقتراح الحلول لها ، ويعتبر أن الدين أصل الحضارات ، لأن الحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي من السماء يكون للناس شرعة ومنهاجا . وإن الدين إذا ضعف في نفوس أصحابه ، فقد الإنسان جانبه الروحي واتصق بالأرض وما عليها التصاقا يعطل ملكات عقله ويطلق غرائزه الدنيوية من عقالها لتعيده الى مستوى الحياة البدائية . ومن جهة أخرى فإن كثير من الدارسين للفكر الإسلامي الحديث من يعتبر مالك بن نبي بمثابة ابن خلدون العصر الحديث، وأبرز مفكر عربي عني بالفكر الحضاري منذ ابن خلدون، ومع أنه قد تمثل فلسفات الحضارة الحديثة تمثلا عميقا، واستلهم في أحايين كثيرة أعمال بعض الفلاسفة الغربيين فإن ابن خلدون بالذات يظل أستاذه الأول وملهمه الأكبر" حيث ينبني مفهوم الحضارة عند ابن نبي على اعتقاده الراسخ بأن "مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها". وانطلاقا من هذا الاعتقاد الراسخ بأهمية الحضارة وضرورة "فقه" حركتها منذ انطلاقتها الأولى إلى أفولها يحاول ابن نبي إعطاء تعريف واسع للحضارة، يتحدد عنده في ضرورة "توفر مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه". وفي 04 شوال 1393 هـ الموافق لـ 31 أكتوبر 1973 توفي بالجزائر العاصمة فارس الفكر، وفقيه الحضارة، وأكبر مفكر مسلم في عصرنا، تاركا وراءه عملا، يجدر بإنسانية القرن الواحد والعشرين استغلاله من أجل إيجاد طريق جديدة تؤدي إلى تلاقي الحضارات ومنها تكوين “الحضارة الإنسانية” رحمه الله رحمة واسعة وجعل اسمه للخلود وروحه للخلد. مات مالك بن نبي رحمه الله ، لكنَّ أفكاره ما زالت حيَّة تهيب بالأمَّة أن تتلقفها لتنهض من كبوتها المزمنة ، وتدخل من جديد في مضمار الحضارة