أبو حنيفة أو أبو حنيفة النعمان أو النعمان بن ثابت بن
النعمان المولود سنة (80هـ/699م). أبوه ثابت بن النعمان رجل تقي
من أهل الكوفة أشتهر بورعه، وكان تاجــراً مشهوراً بالصدقِ والأمانة
والوفاء، أخذ عنهُ الاشتغال بالتجارة أبنهِ النعمان والذي ولد في الكوفة
وكانت آنذاك حاضرة من حواضر العلم، تموج بحلقات الفقه والحديث والقراءات
واللغة والعلوم، وتمتلئ مساجدها بشيوخ العلم وأئمته، وفي هذه المدينة قضى
النعمان معظم حياته متعلماً وعالماً، وتردد في صباه الباكر بعد أن حفظ
القرآن على هذه الحلقات، لكنه كان منصرفاً إلى مهنة التجارة مع أبيه، فلما
رآه عامر الشعبي الفقيه الكبير ولمح ما فيه من مخايل الذكاء ورجاحة العقل
أوصاه بمجالسة العلماء والنظر في العلم، فاستجاب لرغبته وأنصرف بهمته إلى
حلقات الدرس وما أكثرها في الكوفة، فروى الحديث ودرس اللغة والأدب، وكان
من كثرة أهتمامهِ بأن لا يضيع عنه ما يتلقاه من العلم يقضي الوقت في
الطواف على المجالس حاملاً أوراقه وقلمه و حنيفة الحبر، فأشتهر بها وكني
أبا حنيفة، واتجه إلى دراسة علم الكلام حتى برع فيه براعة عظيمة مكّنته من
مجادلة أصحاب الفرق المختلفة ومحاجّاتهم في بعض مسائل العقيدة، ثم أنصرف
إلى الفقه ولزم دروس الفقه عند حماد بن أبي سليمان.
شيوخه
تتلمذ
أبو حنيفة على يد حماد بن أبي سليمان. ولقد أدرك أبو حنيفة جماعة من أصحاب
النبي محمد صلي الله عليه و سلم ومنهم: أنس بن مالك بن النضر، وعبد الله
بن أوفى، ووائلة بن الأسقع، وسهل بن سعد ولازم أبو حنيفة شيخهُ حماد بن
أبي سليمان وتخرج عليه، وواصل دراستهُ عنده ثماني عشرة عاماً، ولم يفارق
شيخهُ حماداً حتى توفى، ومما يدل على حبهِ له أنه سمى ولده (حماد)
إعتزازاً بشيخهِ.
ولقد هاجر من الكوفة إلى مكة وأقام فيها عدة
سنوات، وأكمل دراسته الفقهية على عطاء بن أبي رباح، ومجاهد وهما تلميذي
الصحابي عبد الله بن عباس.
وبلغ عدد العلماء الذين أخذ منهم إجازة العلم وأتصل بهم أكثر من سبعين عالماً.
رئاسة حلقة الفقه
وبعد
موت شيخه حماد بن أبي سليمان آلت رياسة حلقة الفقه إلى أبي حنيفة، وهو في
الأربعين من عمره، والتفّ حوله تلاميذه ينهلون من علمه وفقهه، وكانت له
طريقة مبتكرة في حل المسائل والقضايا التي كانت تُطرح في حلقته؛ فلم يكن
يعمد هو إلى حلها مباشرة، وإنما كان يطرحها على تلاميذه، ليدلي كل منهم
برأيه، ويعضّد ما يقول بدليل، ثم يعقّب هو على رأيهم، ويصوّب ما يراه
صائبا، حتى تُقتل القضية بحثاً، ويجتمع أبو حنيفة وتلاميذه على رأي واحد
يقررونه جميعا.
وكان أبو حنيفة يتعهد تلاميذه بالرعاية، وينفق على
بعضهم من مالهِ، مثلما فعل مع تلميذه أبي يوسف حين تكفّله بالعيش لما رأى
ضرورات الحياة تصرفه عن طلب العلم، وأمده بماله حتى يفرغ تماما للدراسة،
يقول أبو يوسف المتوفى سنة (182هـ = 797م): "وكان يعولني وعيالي عشرين
سنة، وإذا قلت له: ما رأيت أجود منك، يقول: كيف لو رأيت حماداً –يقصد
شيخه- ما رأيت أجمع للخصال المحمودة منه".
وكان مع اشتغاله يعمل
بالتجارة، حيث كان له محل في الكوفة لبيع الخزّ (الحرير)، يقوم عليه شريك
له، فأعانه ذلك على الاستمرار في خدمة العلم، والتفرغ للفقه.
أصول مذهبه
نشأ
مذهب أبي حنيفة في الكوفة مهد مدرسة الرأي، وتكونت أصول المذهب على يديه،
وأجملها هو في قوله: "إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت
بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم أجد فيها أخذت بقول أصحابه من
شئت، وادع قول من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى
الأمر إلى إبراهيم، والشعبي والحسن و ابن سيرين وسعيد بن المسيب فلي أن
أجتهد كما اجتهدوا".
وهذا القدر من أصول التشريع لا يختلف فيه أبو
حنيفة عن غيره من الأئمة، فهم يتفقون جميعا على وجوب الرجوع إلى الكتاب
والسنة لاستنباط الأحكام منهما، غير أن أبا حنيفة تميّز بمنهج مستقل في
الاجتهاد، وطريقة خاصة في استنباط الأحكام التي لا تقف عند ظاهر النصوص،
بل تغوص إلى المعاني التي تشير إليها، وتتعمق في مقاصدها وغاياتها.
ولا
يعني اشتهار أبي حنيفة بالقول بالرأي والإكثار من القياس أنه يهمل الأخذ
بالأحاديث والآثار، أو أنه قليل البضاعة فيها، بل كان يشترط في قبول
الحديث شروطاً متشددة؛ مبالغة في التحري والضبط، والتأكد من صحة نسبتها
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التشدد في قبول الحديث هو ما
حملهُ على التوسع في تفسير ما صح عنده منها، والإكثار من القياس عليها حتى
يواجه النوازل والمشكلات المتجددة.
ولم يقف اجتهاد أبي حنيفة عند
المسائل التي تعرض عليه أو التي تحدث فقط، بل كان يفترض المسائل التي لم
تقع ويقلّبها على جميع وجوهها ثم يستنبط لها أحكاماً، وهو ما يسمى بالفقه
التقديري وفرص المسائل، وهذا النوع من الفقه يقال إن أبا حنيفة هو أول من
استحدثه، وقد أكثر منه لإكثاره استعمال القياس، روي أنه وضع ستين ألف
مسألة من هذا النوع.
تلاميذ أبي حنيفة
لم يؤثر عن أبي حنيفة
أنه كتب كتاباً في الفقه يجمع آراءه وفتاواه، وهذا لا ينفي أنه كان يملي
ذلك على تلاميذه، ثم يراجعه بعد إتمام كتابته، ليقر منه ما يراه صالحاً أو
يحذف ما دون ذلك، أو يغيّر ما يحتاج إلى تغيير، ولكن مذهبه بقي وأنتشر ولم
يندثر كما أندثرت مذاهب كثيرة لفقهاء سبقوه أو عاصروه، وذلك بفضل تلاميذهِ
الموهوبين الذين دونوا المذهب وحفظوا كثيرا من آراء إمامهم بأقواله وكان
أشهر هؤلاء:
أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري المتوفي
عام(183هـ/799م)، ومحمد بن الحسن الشيباني المتوفي في عام(189هـ/805م)،
وزفر بن الهذيل، وهم الذين قعدوا القواعد وأصلوا الأصول في المذهب الحنفي.
ولقد
قضى الإمام أبو حنيفة عمرهُ في التعليم والتدريس ولقد تخرج عليه الكثير من
الفقهاء والعلماء، ومنهم ولدهُ حماد ابن ابي حنيفة، وإبراهيم بن طهمان،
وحمزة بن حبيب الزيات، وأبو يحيى الحماني، وعيسى بن يونس، ووكيع، ويزيد بن
زريع، وأسد بن عمرو البجلي، وحكام بن يعلى بن سلم الرازي، وخارجن بن مصعب،
وعبد الحميد ابن أبي داود، وعلي بن مسهر، ومحمد بن بشر العبدي، ومصعب بن
مقدام، ويحيى بن يمان، وابو عصمة نوح بن أبي مريم، وأبو عبد الرحمن
المقريء، وأبو نعيم وأبو عاصم، وغيرهم كثير.
تدوين المذهب
وصلت
إلينا كتب محمد بن الحسن الشيباني كاملة، وكان منها ما أطلق عليه العلماء
كتب ظاهر الرواية، وهي كتب المبسوط والزيادات، والجامع الكبير والجامع
الصغير، والسير الكبير والسير الصغير، وسميت بكتب ظاهر الرواية؛ لأنها
رويت عن الثقات من تلاميذه، فهي ثابتة عنه إما بالتواتر أو بالشهرة.
وقد
جمع أبو الفضل المروزي المعروف بالحاكم الشهيد المتوفى سنة (344هـ = 955م)
كتب ظاهر الرواية بعد حذف المكرر منها في كتاب أطلق عليه "الكافي"، ثم قام
بشرحه شمس الأئمة السرخسي المتوفى سنة (483هـ = 1090م) في كتابه
"المبسوط"، وهو مطبوع في ثلاثين جزءا، ويعد من أهم كتب الحنفية الناقلة
لأقوال أئمة المذهب، بما يضمه من أصول المسائل وأدلتها وأوجه القياس فيها.
انتشار المذهب
انتشر
مذهب أبي حنيفة في البلاد منذ أن مكّن له أبو يوسف بعد تولّيه منصب قاضي
القضاة في الدولة العباسية، وكان المذهب الرسمي لها، كما كان مذهب
السلاجقة والدولة الغزنوية ثم الدولة العثمانية، وهو الآن شائع في أكثر
البقاع الإسلامية، ويتركز وجوده في مصر و الشام و العراق و أفغانستان
وباكستان والهند والصين .
وفاة أبي حنيفة
مد الله في عمر أبي حنيفة، وهيأ
له من التلاميذ النابهين من حملوا مذهبه ومكنوا له، وحسبه أن يكون من بين
تلاميذه أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وزفر، والحسن بن زياد، وأقر له معاصروه
بالسبق والتقدم، قال عنه النضر بن شميل: "كان الناس نياما عن الفقه حتى
أيقظهم أبو حنيفة بما فتقه وبيّنه"، وبلغ من سمو منزلته في الفقه أن قال
فيه الشافعي : "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة".
كما كان ورعا
شديد الخوف والوجل من الله، وتمتلئ كتب التاريخ والتراجم بما يشهد له
بذلك، ولعل من أبلغ ما قيل عنه ما وصفه به العالم الزاهد فضيل بن عياض
بقوله: "كان أبو حنيفة رجلا فقيها معروفا بالفقه، مشهورا بالورع، واسع
المال، معروفا بالأفضال على كل من يطيف به، صبورا عل تعليم العلم بالليل
والنهار، حسن الليل، كثير الصمت، قليل الكلام حتى ترد مسألة في حلال أو
حرام، فكان يحسن أن يدل على الحق، هاربا من مال السلطان".
وتوفي
أبو حنيفة في بغداد بعد أن ملأ الدنيا علما وشغل الناس في (11 من جمادى
الأولى 150هـ، 14 من يونيو 767م) ويقع قبره في مدينة بغداد بمنطقة
الأعظمية في مقبرة الخيزران على الجانب الشرقي من نهر دجلة.
مظاهر القدوة في شخصية أبي حنيفة
* احترامه وتقديره لمن علمه الفقه:
فقد
ورد عن ابن سماعة، أنه قال: سمعت أبا حنيفة يقول: ما صليت صلاة مُذ مات
حماد إلا استغفرت له مع والدي، وإني لأستغفر لمن تعلمت منه علماً، أو
علمته علما.
* سخاؤه في إنفاقه على الطلاب والمحتاجين وحسن تعامله
معهم، وتعاهدهم مما غرس محبته في قلوبهم حتى نشروا أقواله وفقهه، ولك أن
تتخيل ملايين الدعوات له بالرحمة عند ذكره في دروس العلم في كل أرض. ومن
عجائب ما ورد عنه أنه كان يبعث بالبضائع إلى بغداد، يشتري بها الأمتعة،
ويحملها إلى الكوفة، ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة، فيشتري بها حوائج
الأشياخ المحدثين وأقواتهم، وكسوتهم، وجميع حوائجهم، ثم يدفع باقي
الدنانير من الأرباح إليهم، فيقول: أنفقوا في حوائجكم، ولا تحمدوا إلا
الله؛ فإني ما أعطيتكم من مالي شيئا، ولكن من فضل الله عليَّ فيكم، وهذه
أرباح بضاعتكم؛ فإنه هو والله مما يجريه الله لكم على يدي فما في رزق الله
حول لغيره.
* سؤاله عن أحوال أصحابه وغيرهم من الناس، وحدث حجر بن
عبد الجبار، قال: ما أرى الناس أكرم مجالسة من أبي حنيفة، ولا أكثر
إكراماً لأصحابه. وقال حفص بن حمزة القرشي: كان أبو حنيفة ربما مر به
الرجل فيجلس إليه لغير قصد ولا مجالسة، فإذا قام سأل عنه، فإن كانت به
فاقة وصله، وإن مرض عاده.
* حرصه على هيبة العلم في مجالسه؛ فقد ورد عن شريك قال كان أبو حنيفة طويل الصمت كثير العقل.
* الاهتمام بالمظهر والهيئة؛
بما
يضفي عليه المهابة، فقد جاء عن حماد بن أبي حنيفة أنه قال: كان أبي جميلا
تعلوه سمرة حسن الهيئة، كثير التعطر هيوباً لا يتكلم إلا جواباً ولا يخوض
_رحمه الله_ فيما لا يعنيه. وعن ابن المبارك قال: ما رأيت رجلا أوقر في
مجلسه ولا أحسن سمتاً وحلماً من أبي حنيفة.
* كثرة عبادته وتنسكه .
فقد
قال أبو عاصم النبيل كان أبو حنيفة يسمى الوتد لكثرة صلاته، واشتهر عنه
أنه كان يحيى الليل صلاة ودعاء وتضرعا. وذكروا أن أبا حنيفة صلى العشاء
والصبح بوضوء أربعين سنة. وروى بشر بن الوليد عن القاضي أبي يوسف قال
بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة إذ سمعت رجلاً يقول لآخر هذا أبو حنيفة لا
ينام الليل فقال أبو حنفية والله لا يتحدث عني بما لم أفعل فكان يحيى
الليل صلاة وتضرعا ودعاء، ومثل هذه الروايات عن الأئمة موجودة بكثرة،
والتشكيك في ثبوتها له وجه، لاشتهار النهي عن إحياء الليل كله، وأبو حنيفة
قد ملأ نهاره بالتعليم مع معالجة تجارته، فيبعد أن يواصل الليل كله. ولكن
عبادة أبي حنيفة وطول قراءته أمر لا ينكر، بل هو مشهور عنه ، فقد روي من
وجهين أن أبا حنيفة قرأ القرآن كله في ركعة.
* شدة خوفه من الله :
فقد
روى لنا القاسم بن معن أن أبا حنيفة قام ليلة يردد قول الله في القرآن: (
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ) سورة
القمر، آية 46، ويبكي ويتضرع إلى الفجر.
* شدة ورعه؛
وخصوصا
في الأمور المالية، فقد جاء عنه أنه كان شريكاً لحفص بن عبد الرحمن، وكان
أبو حنيفة يُجهز إليه الأمتعة، وهو يبيع، فبعث إليه في رقعة بمتاع، وأعلمه
أن في ثوب كذا وكذا عيباً، فإذا بعته، فبين. فباع حفص المتاع، ونسى أن
يبين، ولم يعلم ممن باعه، فلما علم أبو حنيفة تصدق بثمن المتاع كله.
تربيته
لنفسه على الفضائل كالصدقة، فقد ورد عن المثنى بن رجاء أنه قال جعل أبو
حنيفة على نفسه إن حلف بالله صادقا أن يتصدق بدينار وكان إذا أنفق على
عياله نفقة تصدق بمثلها.
* وكان حليما صبورا، وله حلم عجيب مع العوام؛
لأن
من تصدى للناس لا بد وأن يأتيه بعض الأذى من جاهل أو مغرر به، ومن عجيب
قصصه ما حكاه الخريبي قال: كنا عند أبي حنيفة فقال رجل: إني وضعت كتابا
على خطك إلى فلان فوهب لي أربعة آلاف درهم، فقال أبو حنيفة إن كنتم
تنتفعون بهذا فافعلوه. وقد شهد بحلمه من رآه، قال يزيد بن هارون ما رأيت
أحدا أحلم من أبي حنيفة، وكان ينظر بإيجابية إلى المواقف التي ظاهرها
السوء، فقد قال رجل لأبي حنيفة (أتق الله)، فأنتفض وأصفر وأطرق وقال:
(جزاك الله خيرا ما أحوج الناس كل وقت إلى من يقول لهم مثل هذا) ، وجاء
إليه رجل، فقال: (يا أبا حنيفة، قد أحتجت إلى ثوب خز) ، فقال: ما لونه؟
قال: كذا، وكذا ، فقال له: أصبر حتى يقع، وآخذه لك، _إن شاء الله_ ، فما
دارت الجمعة حتى وقع، فمر به الرجل، فقال: قد وقعت حاجتك، وأخرج إليه
الثوب، فأعجبه، فقال: يا أبا حنيفة، كم أزن؟ قال: درهماً ، فقال الرجل: يا
أبا حنيفة ما كنت أظنك تهزأ ، قال: ما هزأت، إني اشتريت ثوبين بعشرين
ديناراً ودرهم، وإني بعت أحدهما بعشرين ديناراً، وبقي هذا بدرهم، وما كنت
لأربح على صديق.
* الجدية والأستمرار وتحديد الهدف:
فقد وضع نصب عينيه أن ينفع الأمة في الفقه والاستنباط، وأن يصنع رجالا قادرين على حمل تلك الملكة.
* ترك الغيبة و الخوض في الناس. فعن ابن المبارك: قلت لسفيان الثوري، يا
أبا عبد الله، ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة، وما سمعته يغتاب عدوا له قط.
قال: هو والله أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها. بل بلغ من طهارة
قلبه على المسلمين شيئا عجيبا، ففي تأريخ بغداد عن سهل بن مزاحم قال سمعت
أبا حنيفة يقول: "فبشر عباد الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ " قال: كان أبو حنيفة يكثر من قول: (اللهم من
ضاق بنا صدره فإن قلوبنا قد اتسعت له).
* حرصه على بناء شخصيات فقهية تحمل عنه علمه:
وقد
نجح أيما نجاح. ومن طريف قصصه مع تلاميذه التي تبين لنا حرصه على تربيتهم
على التواضع في التعلم وعدم العجلة ، كما في (شذرات الذهب): لما جلس أبو
يوسف للتدريس من غير إعلام أبي حنيفة أرسل إليه أبو حنيفة رجلا فسأله عن
خمس مسائل وقال له: إن أجابك بكذا فقل له: أخطأت، وإن أجابك بضده فقل له:
أخطأت فعلم أبو يوسف تقصيره فعاد إلى أبي حنيفة فقال: "تزبيت قبل أن
تحصرم". أي بمعنى:(تصدرت للفتيا قبل أن تستعد لها فجعلت نفسك زبيبا وأنت لازلت حصرما).
* تصحيحه لمفاهيم مخالفيه بالحوار الهادئ:
قد
كان التعليم بالحوار سمة بارزة لأبي حنيفة، وبه يقنع الخصوم والمخالفين،
وروى أيضا عن عبد الرزاق قال: شهدت أبا حنيفة في مسجد الخيف فسأله رجل عن
شيء فأجابه فقال رجل: إن الحسن يقول كذا وكذا قال أبو حنيفة أخطأ الحسن
قال: فجاء رجل مغطى الوجه قد عصب على وجهه فقال: أنت تقول أخطأ الحسن ثم
سبه بأمه ثم مضى فما تغير وجهه ولا تلون ثم قال: إي والله أخطأ الحسن
وأصاب بن مسعود.
* ومن مظاهر القدوة عدم اعتقاده أنه يملك الحقيقة المطلقة وأن غيره من العلماء على خطأ؛
فقد
جاء في ترجمته في تأريخ بغداد عن الحسن بن زياد اللؤلؤي يقول: سمعت أبا
حنيفة يقول قولنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاءنا بأحسن من
قولنا فهو أولى بالصواب منا. ولقد بعث الإمام زيد الفضلَ بن الزبير وأبا
الجارود إلى الامام أبي حنيفة النعمان، فوصلا إليه وهو مريض، فدعياه إلى
نصرتهِ، فقال: « هو والله صاحب حق، وهو أعلم مَنْ نعرف في هذا الزمان،
فاقرئاه مني السلام وأخبراه أن مرضاً يمنعني من الخروج معه »